الرسول
صلى الله عليه وسلم
في
مكة أطهر بقاع الأرض أضاء الكون لـميلاد
النبي خاتم النبيين، حيث
وُلد يتيمًا في عام الفيل، وماتت أمه في سنٍّ مبكرة؛ فربَّاه جدُّه عبد المطلب ثم
عمُّه أبو طالب، وكان يرعى الغنم ويعمل في التجارة خلال سنوات شبابه، حتى تزوج من
خديجة بنت خويلد
في سن الخامس والعشرين، وأنجب منها كلَّ أولاده باستثناء إبراهيم.
وفي سنِّ الأربعين نزل عليه الوحي بالرسالة، فدعا إلى عبادة الله وحده ونبذ الشرك،
وكانت دعوته سرِّيَّة لثلاث سنوات، تبعهنَّ عشرٌ أُخَر يُجاهر بها في كل مكان، ثم
كانت الهجرة إلى
المدينة المنوَّرة بعد شدة
بأسٍ من رجال قريش وتعذيبٍ للمسلمين، فأسَّس بها دولة الإسلام، وعاش بها عشر سنوات،
تخلَّلها كثيرٌ من مواجهات الكفار والمسلمين التي عُرِفَت بـالغزوات،
وكانت حياته نواة الحضارة
الإسلامية، التي توسعت في بقعةٍ جغرافيَّةٍ كبيرة على يد
الخلفاء الراشدين من بعده.
ملخص المقال
بعد إسلام البطلين العظيمين حمزة وعمر ازدادت أعداد المسلمين، وأصبحت الأسماء اللامعة تكثر، والإعلان عن الدعوة مستمرٌّ، وبدأ يدخل في الدين أبناء الزعماء
أهم مقتطفات المقال
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسيًّا بارعًا محنَّكًا، يُحاور ويُفاوض؛ لكن وفق ضوابط شرعيَّة قد سنَّها وحدَّدها، فما قَبِلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الحدُّ الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه صلى الله عليه وسلم فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبله أو يتخطَّاه أيُّ داعية بعد ذلك.
قد ورد في تفصيل قصة مفاوضات قريش مع رسول الله صلى الله عليه وسلم المهمَّة رواياتٌ كثيرة؛ أهمُّها ثلاث روايات، وسنذكر هذه الروايات أولًا، ثُمَّ نقف بعدها على بعض المواطن في القصَّة، لتحصل لنا أكبر الفوائد بإذن الله.
جاءت الرواية الأولى في سيرة ابن إسحاق عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قَالَ: حُدِّثْتُ أَنَّ عُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَكَانَ سَيِّدًا، قَالَ يَوْمًا وَهُوَ جَالِسٌ فِي نَادِي قُرَيْشٍ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم جَالِسٌ فِي الْمَسْجِدِ وَحْدَهُ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أمورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفُّ عَنَّا؟ وَذَلِكَ حِينَ أَسْلَمَ حَمْزَةُ، وَرَأَوْا أَصْحَابَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَزِيدُونَ وَيَكْثُرُونَ، فَقَالُوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إلَيْهِ فَكَلِّمْهُ. فَقَامَ إلَيْهِ عُتْبَةُ حَتَّى جَلَسَ إلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: يَابْنَ أَخِي؛ إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَةِ[1] فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ، وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ، فَاسْمَعْ مِنِّي أَعْرِضْ عَلَيْكَ أمورًا تَنْظُرُ فِيهَا لَعَلَّكَ تَقْبَلُ مِنْهَا بَعْضَهَا. قَالَ: فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ». قَالَ: يَابْنَ أَخِي؛ إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ، وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا، وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا[2] تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ[3] عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ. أَوْ كَمَا قَالَ لَهُ.
حَتَّى إذَا فَرَغَ عُتْبَةُ، وَرَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَسْتَمِعُ مِنْهُ، قَالَ: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟» قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: «فَاسْمَعْ مِنِّي». قَالَ: أَفْعَلُ. فَقَالَ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا * فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ﴾ [فصلت: 1-5]، ثُمَّ مَضَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا يَقْرَؤُهَا عَلَيْهِ، فَلَمَّا سَمِعَهَا مِنْهُ عُتْبَةُ، أَنْصَتَ لَهَا، وَأَلْقَى يَدَيْهِ خَلْفَ ظَهْرِهِ مُعْتَمِدًا عَلَيْهِمَا يَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ انْتَهَى رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إلَى السَّجْدَةِ مِنْهَا، فَسَجَدَ ثُمَّ قَالَ: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ». فَقَامَ عُتْبَةُ إلَى أَصْحَابِهِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضِ: نَحْلِفُ بالله لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ. فَلَمَّا جَلَسَ إلَيْهِمْ قَالُوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟ قَالَ: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ. قَالُوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ. قَالَ: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ[4].
أمَّا الرواية الثانية فقد جاءت عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما في أكثر من مصدر، وفيها قال جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللهِ رضي الله عنهما: «اجْتَمَعَتْ قُرَيْشٌ يومًا، فَقَالُوا: انْظُرُوا أَعْلَمَكُمْ بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، فَلْيَأْتِ هَذَا الرَّجُلَ الَّذِي فَرَّقَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتْ أَمْرَنَا، وَعَابَ دِينَنَا، فَلْيُكَلِّمْهُ، وَلْيَنْظُرْ مَاذَا يَرُدُّ عَلَيْهِ. فَقَالُوا: مَا نَعْلَمُ أَحَدًا غَيْرَ عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ. فَقَالُوا: أَنْتَ يَا أَبَا الْوَلِيد. فَأَتَاهُ عُتْبَةُ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَنْتَ خَيْرٌ، أَمْ عَبْدُ اللهِ؟ -يقصد أبا رسول الله صلى الله عليه وسلم- فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، ثمَّ قَالَ: أَنْتَ خَيْرٌ، أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ فَسَكَتَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: إِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّ هَؤُلَاءِ خَيْرٌ مِنْكَ، فَقَدْ عَبَدُوا الآلِهَةَ الَّتِي عِبْتَ، وَإِنْ كُنْتَ تَزْعُمُ أَنَّك خَيْرٌ مِنْهُمْ فَتَكَلَّمْ حَتَّى نَسْمَعَ قَوْلَكَ، إِنَّا وَاللهِ مَا رَأَيْنَا سَخْلَةً[5] قَطُّ أَشْأَمَ عَلَى قَوْمِهِ مِنْكَ، فَرَّقْتَ جَمَاعَتَنَا، وَشَتَّتَ أَمْرَنَا، وَعِبْتَ دِينَنَا، وَفَضَحْتَنَا فِي الْعَرَبِ، حَتَّى لَقَدْ طَارَ فِيهِمْ أَنَّ فِي قُرَيْشٍ سَاحِرًا، وَأَنَّ فِي قُرَيْشٍ كَاهِنًا، وَاللهِ مَا نَنْتَظِرُ إِلَّا مِثْلَ صَيْحَةِ الْحُبْلَى[6]، أَنْ يَقُومَ بَعْضُنَا لِبَعْضٍ بِالسُّيُوفِ حَتَّى نَتَفَانَى؛ أَيُّهَا الرَّجُلُ، إِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْبَاءَةُ، فَاخْتَرْ أَيَّ نِسَاءِ قُرَيْشٍ فَلْنُزَوِّجُك عَشْرًا، وَإِنْ كَانَ إِنَّمَا بِكَ الْحَاجَةُ، جَمَعْنَا لَكَ حَتَّى تَكُونَ أَغْنَى قُرَيْشٍ رَجُلًا وَاحِدًا. فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «أَفَرَغْتَ؟» قَالَ: نَعَمْ. فَقَرَأَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بسم الله الرَّحْمَن الرحيم ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾ [فصلت: 1، 2]، حَتَّى بَلَغَ: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [فصلت: 13]، فَقَالَ لَهُ عُتْبَةُ: حَسْبُكَ حَسْبُكَ، مَا عِنْدَكَ غَيْرُ هَذَا؟ قَالَ: «لَا». فَرَجَعَ إِلَى قُرَيْشٍ، فَقَالُوا: مَا وَرَاءَك؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ شَيْئًا أَرَى أَنَّكُمْ تُكَلِّمُونَهُ بِهِ إِلَّا وَقَدْ كَلَّمْتُهُ بِهِ. فَقَالُوا: فَهَلْ أَجَابَكَ؟ قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: لَا، وَالَّذِي نَصَبَهَا بَنِيَّةً[7] مَا فَهِمْتُ شيئًا مِمَا قَالَ، غَيْرَ أَنَّهُ أَنْذَرَكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ. قَالُوا: وَيْلَكَ! يُكَلِّمُكَ رَجُلٌ بِالْعَرَبِيَّةِ لَا تَدْرِي مَا قَالَ. قَالَ: لَا وَاللهِ، مَا فَهِمْتُ شيئًا مِمَا قَالَ غَيْرَ ذِكْرِ الصَّاعِقَةِ»[8].
وأمَّا الرواية الثالثة، فهي تكاد تتطابق مع الرواية السابقة، وهي كذلك عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، إلا أن فيها زيادة مهمَّة، لها دلالة عميقة نودُّ أن نقف عندها، وقد وردت هذه الرواية عند البيهقي رحمه الله في دلائل النبوة.
قال البيهقي: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللهِ الْحَافِظُ، وأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ السُّلَمِيُّ قَالَا: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاسِ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْعَبَّاسُ بْنُ مُحَمَّدٍ الدُّورِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ مَعِينٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْفُضَيْلِ، قَالَ: حَدَّثَنَا الأَجْلَحُ، عَنِ الذَّيَّالِ بْنِ حَرْمَلَةَ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ قَالَ: «قَالَ أبو جَهْلٍ وَالْمَلأُ مِنْ قُرَيْشٍ: لَقَدِ انْتَشَرَ عَلَيْنَا أَمْرُ مُحَمَّدٍ، فَلَوِ الْتَمَسْتُمْ رَجُلًا عَالِمًا بِالسِّحْرِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ فَكَلَّمَهُ ثُمَّ أَتَانَا بِبَيَانٍ مِنْ أَمْرِهِ، فَقَالَ عُتْبَةُ: لَقَدْ سَمِعْتُ بِقَوْلِ السَّحَرَةِ وَالْكِهَانَةِ وَالشِّعْرِ، وَعَلِمْتُ مِنْ ذَلِكَ عِلْمًا، وَمَا يَخْفَى عَلَيَّ إِنْ كَانَ كَذَلِكَ، فَأَتَاهُ فَلَمَّا أَتَاهُ قَالَ لَهُ عُتْبَةُ: يَا مُحَمَّدُ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ هَاشِمٌ؟ أَنْتَ خَيْرٌ أَمْ عَبْدُ الْمُطَّلِبِ؟ أَنْتَ خَيْرُ أَمْ عَبْدُ اللهِ؟ فَلَمْ يُجِبْهُ، قَالَ: فِيمَ تَشْتُمُ آلِهَتَنَا، وَتُضَلِّلُ آبَاءَنَا؟ فَإِنْ كُنْتَ إِنَّمَا بِكَ الرِّئَاسَةُ عَقَدْنَا أَلْوِيَتَنَا لَكَ فَكُنْتَ رَأْسَنَا مَا بَقِيتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْبَاءَةُ زَوَّجْنَاكَ عَشْرَ نِسْوَةٍ تَخْتَارُ مِنْ أَيِّ أَبْيَاتِ قُرَيْشٍ شِئْتَ، وَإِنْ كَانَ بِكَ الْمَالُ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا تَسْتَغْنِي بِهَا أَنْتَ وَعَقِبُكَ مِنْ بَعْدِكَ. وَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم سَاكِتٌ لَا يَتَكَلَّمُ، فَلَمَّا فَرَغَ قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ، ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ فَقَرَأَ حَتَّى بَلَغَ: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾ [ فصلت: 1-13]، فَأَمْسَكَ عُتْبَةُ عَلَى فِيهِ وَنَاشَدَهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ عَنْهُ وَلَمْ يَخْرُجْ إِلَى أَهْلِهِ وَاحْتَبَسَ عَنْهُمْ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ وَاللهِ مَا نَرَى عُتْبَةَ إِلَّا قَدْ صَبَا إِلَى مُحَمَّدٍ وَأَعْجَبَهُ طَعَامَهُ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا مِنْ حَاجَةٍ أَصَابَتْهُ، انْطَلِقُوا بِنَا إِلَيْهِ. فَأَتَوْهُ، فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ: وَاللهِ يَا عُتْبَةُ مَا حَسِبْنَا إِلَّا أَنَّكَ صَبَوْتَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَأَعْجَبَكَ أَمْرُهُ، فَإِنْ كَانَتْ بِكَ حَاجَةٌ جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا مَا يُغْنِيكَ عَنْ طَعَامِ مُحَمَّدٍ. فَغَضِبَ وَأَقْسَمَ بِاللهِ لَا يُكَلِّمُ مُحَمَّدًا أَبَدًا. قَالَ: وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنِّي مِنْ أَكْثَرِ قُرَيْشٍ مَالًا، وَلَكِنِّي أَتَيْتُهُ -فَقَصَّ عَلَيْهِمُ الْقِصَّةَ- فَأَجَابَنِي بِشَيْءٍ وَاللهِ مَا هُوَ بِسِحْرٍ وَلَا شِعْرٍ وَلَا كَهَانَةٍ؛ قرأ: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ[9]﴾. قَالَ يَحْيَى: كَذَا قَالَ: يَعْقِلُونَ. حَتَّى بَلَغَ فَقَالَ: ﴿أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾. فَأَمْسَكْتُ بِفِيهِ وَنَاشَدْتُهُ الرَّحِمَ أَنْ يَكُفَّ، وَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ مُحَمَّدًا إِذَا قَالَ شَيْئًا لَمْ يَكْذِبْ، فَخِفْتُ أَنْ يَنْزِلَ بِكُمُ الْعَذَابُ»[10].
لقد وضح لنا في هذه الروايات أنَّ قريشًا هي التي تطلب التفاوض؛ بل تطمع أن يقبل محمد صلى الله عليه وسلم بأطروحاتها؛ فقد قال زعيمهم عتبة بن ربيعة: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَلَا أَقُومُ إلَى مُحَمَّدٍ فَأُكَلِّمَهُ وَأَعْرِضَ عَلَيْهِ أمورًا لَعَلَّهُ يَقْبَلُ بَعْضَهَا فَنُعْطِيهِ أَيَّهَا شَاءَ، وَيَكُفُّ عَنَّا؟
وكان هذا تنازلًا كبيرًا من زعماء قريش، وهو وإن دلَّ على شيءٍ فإنَّما يُفَسِّر الوضع الذي أصبحت فيه مكة بعد إسلام حمزة وعمر رضي الله عنهما، ومع أنَّ هذا العرض كان على غير هوى الكثير من الزعماء فإنَّهم وافقوا مضطرين، فقالوا: بَلَى يَا أَبَا الْوَلِيدِ، قُمْ إلَيْهِ فَكَلِّمْهُ.
وفي المسجد الحرام حيث كان يجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم بمفرده، ذهب عتبة وجلس معه وبدأ حواره؛ ولأنَّه كان ذكيًّا فقد بدأ عتبة بن ربيعة الكلام، وقد رتَّبه ونظَّمه، ونوَّع فيه بين الإغراء والتهديد، وبين مخاطبة العقل ومناجاة القلب، ولا غرو فهو -كما يقولون- كان من الحكماء.
بدأ عتبة كلامه بالتودُّد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ورفع قدره بقصد إحراجه نفسيًّا قائلًا: يَابْنَ أَخِي؛ إنَّكَ مِنَّا حَيْثُ قَدْ عَلِمْتَ مِنَ السِّطَةِ فِي الْعَشِيرَةِ، وَالْمَكَانِ فِي النَّسَبِ.
لكنَّه أتبع ذلك بالتلويح بما يعتبره جرائم ضخمة، لا يجب في رأيه أن تأتي من هذا الإنسان رفيع القدر قائلًا: وَإِنَّكَ قَدْ أَتَيْتَ قَوْمَكَ بِأَمْرِ عَظِيمٍ، فَرَّقْتَ بِهِ جَمَاعَتَهُمْ، وَسَفَّهْتَ بِهِ أَحْلَامَهُمْ، وَعِبْتَ بِهِ آلِهَتَهُمْ وَدِينَهُمْ، وَكَفَّرْتَ بِهِ مَنْ مَضَى مِنْ آبَائِهِمْ.
يُريد عتبة وبمنتهى الوضوح أن يُشعِر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه متَّهم بزعزعة الاستقرار في مكة، وبتهديد نظام الحُكْم فيها، فما لك أنت والدين؟! دع الدين لأهل الدين، كان عليك أن تدعه للكهَّان وسدنة الأصنام! ولكنَّك أقدمت على هذا العمل، وقد تسبَّب عنه لقومك كذا وكذا وكذا، وقد يكون ما أقدمتَ عليه هذا مجرَّد خطأ غير مقصود؛ ومن ثَمَّ -ولمنزلتك عندنا- سنعرض عليك أمورًا فاختر منها ما شئت.
بهذه الطريقة الثُّعبانية يُريد عتبة أن يُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أنَّ هذه الاقتراحات التي سنطرحها عليك ليست فقط مجرَّد عروض مغرية؛ بل إنَّ مجرَّد رفض هذه الاقتراحات معناه توجيه وإثبات التهم الخطيرة عليك، والذي عقابه أنت تتوقَّعه، ولن أذكره لك.
بهذه الطريقة شنَّ عتبة حربًا نفسية شديدة، وإن كانت مغلَّفة بابتسامة واسعة، واحترام كبير، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يتفهَّم مثل هذا الأسلوب جيدًا، وكان يعلم أنَّ هذا مساومةٌ على الدين؛ لكنَّه صلى الله عليه وسلم كان في غاية الأدب مع عتبة المشرك الكافر، فقال له في سعة صدر، وفي رقَّة قلب، مُدَلِّلًا له، ومناديًا إياه بكنيته، وبأحب الأسماء إليه: «قُلْ يَا أَبَا الْوَلِيدِ، أَسْمَعْ».
فالرسول صلى الله عليه وسلم يُريد أن يستوعب عتبة بن ربيعة، ويُريد أن يُعطيه فرصةً كاملةً للكلام، حتى يُعطيه بعد ذلك بدوره فرصةً للسماع؛ قال عتبة يعرض مجموعةً من العروض غايةً في الإغراء لأهل الدنيا:
أمَّا العرض الأول فهو: إنْ كُنْتَ إنَّمَا تُرِيدُ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنْ هَذَا الأَمْرِ مَالًا جَمَعْنَا لَكَ مِنْ أَمْوَالِنَا حَتَّى تَكُونَ أَكْثَرَنَا مَالًا.
والعرض الثاني: وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ شَرَفًا سَوَّدْنَاكَ عَلَيْنَا، حَتَّى لَا نَقْطَعَ أَمْرًا دُونَكَ.
والعرض الثالث: وَإِنْ كُنْتَ تُرِيدُ بِهِ مُلْكًا مَلَّكْنَاكَ عَلَيْنَا.
أمَّا العرض الرابع، فكان عرضًا غير مهذَّب؛ لكنه حاول أن يُخرجه في صورة مهذَّبة! حيث قال عتبة: وَإِنْ كَانَ هَذَا الَّذِي يَأْتِيكَ رِئْيًا تَرَاهُ لَا تَسْتَطِيعُ رَدَّهُ عَنْ نَفْسِكَ، طَلَبْنَا لَكَ الطِّبَّ، وَبَذَلْنَا فِيهِ أَمْوَالَنَا حَتَّى نُبْرِئَكَ مِنْهُ، فَإِنَّهُ رُبَّمَا غَلَبَ التَّابِعُ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُدَاوَى مِنْهُ.
وهذا العرض الأخير فيه من التلميح من أنَّ الذي لا يقبل العروض السابقة فإنَّه ولا شكَّ -في عرف قريش- مجنون.
كانت هذه عروضًا أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان عتبة يُقَدِّم هذه العروض وهو يرى أنه يُقَدِّم أكبر تنازلٍ قد حدث في تاريخ مكة كلِّها.
وفي رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنهما زاد عرضًا خامسًا، وهو تزويج الرسول صلى الله عليه وسلم بعشر من نساء قريش!
وإنَّ هذا التنازل الكبير لا بُدَّ أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو: السكوت عن الحقِّ، وترك أمر الدعوة، وعدم الخوض إلَّا فيما يُرضِي الزعماء والأسياد في مكة.
لقد كانت هذه عروضًا لشراء الضمائر والذمم، ولا شكَّ أنَّ مَنْ يقبل بمثلها فإنَّ عليه أولًا أنْ يُنَحِّيَ الدين جانبًا، ثُمَّ يبدأ في التنازل، وقد تكون التنازلاتُ الأولى بسيطةً؛ لكنَّها ستكبر بعد ذلك، فالتنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها عادةً تنازلًا صغيرًا؛ ولأنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ليخفى عليه مثل هذا فكان من الضروري ألَّا يتنازل.
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سياسيًّا بارعًا محنَّكًا، يُحاور ويُفاوض؛ لكن وفق ضوابط شرعيَّة قد سنَّها وحدَّدها، فما قَبِلَه رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو الحدُّ الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه صلى الله عليه وسلم فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبله أو يتخطَّاه أيُّ داعية بعد ذلك.
ومع أنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم منذ أول كلمةٍ تفوَّه بها عتبة أنَّ كلَّ ما سيعرضه عليه ما هو إلَّا مساومات لا قيمة لها، وعلى الرغم من أنَّه -ومنذ أول الحديث- كان عازمًا تمامًا على رفض كلِّ هذه العروض الدنيويَّة المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كلِّ ذلك فإنَّه صلى الله عليه وسلم لم يُقاطع عتبة مرَّة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى، وفي هدوءٍ تامٍّ، وعدم انفعال، قال له صلى الله عليه وسلم: «أَقَدْ فَرَغْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟»
أجابه عتبة: نَعَمْ.
وهنا قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فَاسْمَعْ مِنِّي».
قال عتبة: أَفْعَلُ.
وكان هذا هو الذي يُريده رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن عتبة ليستطيع أن يرفض السماع بعد كلِّ هذا الأدب العظيم من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان مضطرًّا إلى أن يسمع، حتى إن كان على غير مراده، وفي محاولة جادَّة للوصول إلى الهدف بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث، فلم يتكلَّم بكلامه هو، إنما تكلَّم بكلام الله عزَّ وجل، تكلَّم بالقرآن، وليتنا نتخيَّل هذا الموقف، ونُحاول أن نسمع بأُذن عتبة بن ربيعة، ونتدبَّر في كلِّ آية؛ لنُحاول أن نفهم مشاعر عتبة عندما سمع هذه الرسالة الإلهية، ومن فم رسول الله صلى الله عليه وسلم!
قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم صدر سورة فُصِّلَتْ:
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ ﴿حم * تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ * وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ * قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ * الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت: 1-7].
كلمات معجزة عجيبة تنزل على عتبة كما الصاعقة، تكشف كلَّ ما بداخله، وهو يزداد خوفًا ولا يستطيع القيام. ونشعر عند قراءة هذه الآيات تحديدًا وكأنها تتكلَّم عن العلاقة المباشرة بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وعتبة بن ربيعة نفسه! فالآيات تَذْكُر حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نفسه في قوله تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ﴾، فهذا هو التوصيف الذي يرفضه عتبة، فهو يرفض مبدأ الوحي والرسالة، ثم تذكر الآيات موقف المشركين الذي أعرضوا بشكل سفيه لا يتناسب مع العقل الذي حباهم الله به، فكان حالهم كمن وضع في أذنيه شيئًا يمنع السماع، ووضع قلبَه في غلاف أصمَّ يمنع التأثُّر بالقرآن؛ بل وضع حجابًا بينه وبين الحقيقة حتى يتجاهل وجودها بهذه الطريقة الساذجة! إن الآيات تُخبر عتبة أنه ليس حكيمًا كما يظنُّ الناس، أو كما يظنُّ هو، إنما في الحقيقة هو ضعيف للغاية، وخائف تمامًا، ولا يقوى بحال على مناظرة القرآن، أو الحديث المباشر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لذلك أدرك عتبة والمشركون حجمهم فوضعوا كل هذه الحواجز بينهم وبين الحقائق معتبرين ذلك هو الحل الأمثل!
أيُّ عقلية طفوليَّة هذه التي يُحَاجُّ بها المشركون كتابَ الله وسُنَّةَ رسوله صلى الله عليه وسلم!
ثم أكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته، وعتبة يستمع في وجوم:
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ * قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ * ثمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ * فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ﴾. [فصلت: 8-12].
ما أروع هذه الآيات وهي تكشف دواخل عتبة، وتفضحه أمام نفسه! انظر إلى هذا التعجُّب الشديد من أفعال الكافرين: «قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا؟ ذَلِكَ رَبُّ العَالَمِينَ»! أليس أمرك عجيبًا يا عتبة؟! وماذا فَعَلَتْ آلهتكم أيها المشركون في هذا الكون؟! هل تعتقدون أن هبل أو اللات أو العزى لها دورٌ في خلق السماوات أو الأرض؟ أم هل تعتقدون أنَّها تُوَزِّع الأرزاق على العباد؟ أم أنَّها شاركت في تزيين السماء بالنجوم؟!
إنَّنا -نحن المسلمين- نعبد العزيزَ العليم، الذي خلق الكون وأبدعه؛ والذي أنزل الرزق وقَسَّمه، والذي زيَّن السماء وحفظها؛ هذا إلهنا الذي نعبد، فمَنْ تعبد أنت يا عتبة؟!
ثم يُكمل رسول الله صلى الله عليه وسلم قراءته: ﴿فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ﴾. [فصلت: 13].
إنَّه التحذير المخوِّف!
إنَّ المحاورة والإقناع لن يستمرَّا طويلًا! فالإعراض المتكرِّر، والإنكار الدائم، لن يُقْبَل منكم أبد الدهر! إنَّ أمامكم فرصة إذا اغتنمتموها ربحتم، وإذا ضاعت من أيديكم فلا يلومنَّ أحدٌ منكم إلَّا نفسه! إنَّ الصاعقة التي أصابت المكذِّبين أمثالكم ليست بعيدة عنكم.. اقرءوا التاريخ، واستعيدوا ذكريات عاد وثمود.. إنَّهما من القرى التي كذَّبت، فكيف كانت العاقبة؟
كان التحذير مخوِّفًا حقًّا! ولم يتمالك عتبة نفسه، وقد أخذه الرعب والهلع كلَّ مأخذٍ، وكاد قلبه ينخلع، وشعر كأن الصاعقة ستنزل عليه في مجلسه هذا! وفي لحظة نسي فيها أمر عدائه، ونسي أمر المفاوضات؛ بل نسي مكانته وهيبته، قام فَزِعًا وقد وضع يده على فم الرسول صلى الله عليه وسلم وهو يقول: أنشدك الله والرحم، أنشدك الله والرحم.
ولكنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم استمرَّ في القراءة حتى وصل إلى السجدة، فسجد ثم قال: «قَدْ سَمِعْتَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ مَا سَمِعْتَ، فَأَنْتَ وَذَاكَ».
ومن فوره قام عتبة يجرُّ ثوبه، يتعثَّر فيه، مهرولًا إلى قومه، لا ينظر خلفه، عيناه زائغتان، أنفاسه منقطعة، حتى دخل على زعماء قريش.
لم يكن الأمر يحتاج إلى كثيرِ ذكاء حتى يعرف الجمع ما حدث، لقد كان وجهه ينطق بشيء، حتى لقد قال بعضهم: نَحْلِفُ بالله لَقَدْ جَاءَكُمْ أَبُو الْوَلِيدِ بِغَيْرِ الْوَجْهِ الَّذِي ذَهَبَ بِهِ.
وحين جلس إليهم قالوا: مَا وَرَاءَكَ يَا أَبَا الْوَلِيدِ؟!
وبلسانٍ عجيب، وفي غاية الصدق، بدأ أبو الوليد عتبة يحكي تجربته، بدأ يتحدَّث وكأنه أحد الدعاة للإسلام! فقال: وَرَائِي أَنِّي قَدْ سَمِعْتُ قَوْلًا وَاللهِ مَا سَمِعْتُ مِثْلَهُ قَطُّ، وَاللهِ مَا هُوَ بِالشِّعْرِ، وَلَا بِالسِّحْرِ، وَلَا بِالْكِهَانَةِ، يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، أَطِيعُونِي وَاجْعَلُوهَا بِي، وَخَلُّوا بَيْنَ هَذَا الرَّجُلِ وَبَيْنَ مَا هُوَ فِيهِ فَاعْتَزِلُوهُ، فَوَاللهِ لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي سَمِعْتُ مِنْهُ نَبَأٌ عَظِيمٌ، فَإِنْ تُصِبْهُ الْعَرَبُ فَقَدْ كُفِيتُمُوهُ بِغَيْرِكُمْ، وَإِنْ يَظْهَرْ عَلَى الْعَرَبِ فَمُلْكُهُ مُلْكُكُمْ، وَعِزُّهُ عِزُّكُمْ، وَكُنْتُمْ أَسْعَدَ النَّاسِ بِهِ.
وفي ذهول تامٍّ ردُّوا عليه وقالوا: سَحَرَكَ وَاللهِ يَا أَبَا الْوَلِيدِ بِلِسَانِهِ.
فأجابهم متمسِّكًا برأيه: هَذَا رَأْيِي فِيهِ، فَاصْنَعُوا مَا بَدَا لَكُمْ.
أيُّ حماقةٍ تلك التي يعيشها هؤلاء الناس؟!
فبعد كلِّ هذا رأيناه يُقْسِم بالله! على أيِّ شيء أَقْسَمَ؟! لقد أقسم ألا يُكَلِّم محمدًا أبدًا!!
[1] السطة: الشرف، وقيل: السطة أي من الوسط حسبًا ونسبًا.
[2] الرَّئِيُّ والرِّئِيُّ: الجِنِّيُّ يراه الإِنسان، وقيل: له رَئيٌّ من الجن إِذا كان يحبه ويُؤَالِفُه. وقيل: جنِّيٌّ يتعرض للرجل يُريه كهانة وطِبًّا. وقيل: هو الذي يعتاد الإنسان من الجنِّ. ابن منظور: لسان العرب، مادة (رأى) 14/291.
[3] التابع: من يتبع من الجن.
[4] ابن إسحاق: السير والمغازي ص206-208، وابن هشام: السيرة النبوية 1/293، والبيهقي: دلائل النبوة، 2/204، 205، وابن عساكر: تاريخ دمشق 38/246، وسعد المرصفي: الجامع الصحيح للسيرة النبوية 4/1008، 1009، والفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص411، 412، وقال الصوياني: حديث حسن رواه ابن إسحاق (ابن هشام) بسند صحيح مرسلًا. ثم ذكر طرقًا للحديث ثم قال: فالحديث بهذه الطرق حسن. انظر: الصوياني: السيرة النبوية 1/111، 112، والصحيح من أحاديث السيرة النبوية، ص113.
[5] السخلة: ولد الشاة، والسَّخْل: المولود المُحَبَّب إِلى أَبويه، وهو في الأَصل ولد الغنم، وقيل: وهو أَيضًا ما لم يُتَمَّم من كل شيء.
[6] ما ينتظرون إِلاَّ مثل صيحة الحُبْلى: من أمثال العرب ويضرب في الخطر؛ أي أن شَرًّا سيعاجلهم، وهي صحية شديدة عند المصيبة أو غيرها.
[7] البَنِيَّة: الكعبة؛ وسُمِّيَتْ بذلك لشرفها؛ إذ هي أشرف مبْنِيٍّ، يقال: لا وربِّ هذه البَنِيَّة ما كان كذا وكذا. وكانت تُدْعَى بَنِيَّةَ إبراهيم عليه السلام لأنه بناها، وقد كثر قَسَمُهم: برب هذه البَنِيَّة. انظر: ابن منظور: لسان العرب، 14/89.
[8] أبو يعلى (1818)، والحاكم (3002)، وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه. ووافقه الذهبي، وابن أبي شيبة: المصنف، (36560)، والمنتخب من مسند عبد بن حميد (1123)، وأبو نعيم الأصبهاني: دلائل النبوة ص231، والبيهقي: دلائل النبوة 2/202-204، وقال الهيثمي: رواه أبو يعلى، وفيه الأجلح الكندي، وثقه ابن معين، وغيره، وضعفه النسائي، وغيره، وبقية رجاله ثقات. انظر: مجمع الزوائد 6/20. والألباني: صحيح السيرة النبوية ص159، 160، والفالوذة: الموسوعة في صحيح السيرة النبوية (العهد المكي) ص410، ومجموعة من المؤلفين: صحيح الأثر وجميل العبر من سيرة خير البشر صلى الله عليه وسلم ص110، وحسن إسناده إبراهيم العلي، انظر: صحيح السيرة النبوية ص63، 64، وسعيد المرصفي: الجامع الصحيح للسيرة النبوية 4/1009، 1010.
[9] قال محقق تاريخ دمشق: وبالأصل يعقلون بدل يعلمون. ابن عساكر: تاريخ دمشق 38/242، 243.
[10] البيهقي: دلائل النبوة 2/202-204، وابن عساكر: تاريخ دمشق 38/242، 243.
التعليقات
إرسال تعليقك